• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أثر الدلال على شخصية الطفل

أثر الدلال على شخصية الطفل

قد يتساءل البعض: هل سينجح الأسلوب الصارم والتعامل الخشن والحاد مع الطفل في إبعاد شخصية الطفل عن حالة الميوعة والدلال المفرط وإضفاء طابع الجد والوقار عليها؟

.. وهل ترك الطفل يستمر في البكاء – على سبيل المثال – أو عدم هزِّه في المهد، وعدم الرضوخ إلى طلباته المستمرة ستبعده عن حالة الدلال وآثارها النفسية؟

إنّ الجواب هو النفي بالتأكيد، وذلك لأنّ الطفل وحتى السنة الأولى من عمره يبكي لأنّه يشعر بحاجة حقيقية إلى شيء ما وهو لا يملك وسيلة أخرى لتنبيه والديه إلى طلباته واحتياجاته غير البكاء، في حين لازال الشعور بالدلال لم ينمُ لديه بعد.

أما بعد السنة الأولى فيشعر الطفل الذي يجد تلبية دائمة لرغباته في نهاية المطاف بأنّه متعلِّق بأمه تعلقاً مفرطاً، ولا يقبل منها أي رفض أو عدم استجابة، ويصبح معتمداً عليها، ولا يقدر أن يكون مستقلاً عنها، وتنمو هذه العوامل لدى الطفل بالتدريج خاصة إذا بقي والداه يحققان له نزواته ويلبيان طلباته ويستجيبان لرغباته، ولاسيّما عندما يكون هو الطفل الوحيد لوالديه، أو إذا أنجباه بعد فترة طويلة من الانتظار أو عدم الإنجاب.

ومن الطبيعي فإنّ الأبوين الذين يوليان اهتمامهما كله للطفل، ويحاولان عدم حرمانه من أي شيء فإنهما سيصلان بالطفل إلى مرحلة فرض وجودهما عليه بصورة مستمرة، وبعد ذلك عندما يبتعدان عنه ينتابه شعور بالهجر والمباعدة وهو ما يورثه إحساساً بالقلق وعدم الاطمئنان وإلى الحقد والكراهية – في بعض الحالات –، فيميل إذ ذاك إلى المضايقة والتشكي.

والدلال في معظم الأحوال لا يفسد الطفل إذا كان هذا الطفل يتلقّى في أثناء الحياة اليومية القدر المناسب من الحنان والاهتمام والتعاون، ولكن بشرط أن يترك وشأنه لفترات معينة من الزمن.

 

زبدة القول:

إنّ الطفل بحاجة إلى الأنس والحنان قبل كلّ شيء، ولكن ينبغي أن يتاح له المجال ليكتسب استقلاله الذاتي، ففي ذلك يتمثل النمو المتوازن الحقيقي له، وربما كان هذا هو الطريق الوحيد لتوازنه، ومن دون هذا التوازن تبرز عيوب التربية.

والحق أنّ هذا الكلام ينطبق على الأطفال الصغار، لأن برنامج التربية يختلف باختلاف السن، فالطفل الحديث الولادة يبكي من الألم، فتأخذه أُمّه، وتحضنه بين ذراعيها وتهزه فيهدأ.

وعلى النقيض من ذلك إذا خدش طفل في الثانية أو الثالثة من العمر نفسه، أو سقط من مرتفع، وجب على أمِّه أو تواسيه، وتعمل كلّ ما في وسعها لإرضاء شعوره، وأن تخفِّف في الوقت نفسه من هول الحادث، وتبعد انتباهه عنه بجعله يفكِّر في أشياء أخرى، وصرف اهتمامه عن بكائه وألمه إلى حدٍّ كبير.

 

اهتمام على طول الخط:

ينبغي على الأُم – في الواقع – الاهتمام بطفلها في الحالات جميعاً، وعدم قصر اهتمامها به على بكائه، أو تعرُّضه لمشكلة معيّنة، فذلك يفسد الطفل ويجعله بكّاءً، فلا بأس في أن تحضن الأُم طفلها وترعاه عندما يكون في مزاج سعيد، حتى لا يشعر بضرورة اللجوء إلى البكاء والغضب عندما يواجه موقفاً غير سار.

فإذا شعر الطفل أو اعتقد أنّ والديه لا يمنحانه وقتهما إلا عند بكائه وصراخه، أخذ إذ ذاك بالتمثيل وتجسيد كل ما يتعرض له من المواقف التافهة، لذلك ينبغي الاهتمام بالطفل وإحاطته بالحنان في حالة هدوئه، فذلك يورثه ثقة في النفس أثناء نموِّه، ويمنحه مزيداً من السعادة.

 

محطات من عمر الطفل:

عندما يبلغ الطفل السنتين تبرز مشكلة تربيته من دون دليله، ففي السنة الثانية يبدأ الطفل بإطلاق الرفض وتكرار لفظة الـ"لا" باستمرار، والسنة الثانية هي سنة صعبة، لأنّها سنة كسب التجارب وأخذ الدروس، وفي هذه السنة يبدأ الطفل بالمشي والكلام، وهو ما يمثل ثورة صغيرة في طريقة حياته السابقة التي كانت تتسم بهدوء نسبي حتى هذه المرحلة، والطفل عند انتهاء سنته الأولى يستطيع إظهار عواطفه من غضب وغيرة وحب واستياء عن طريق إشارات مميّزة وواضحة.

أما في السنة الثانية فهو يستطيع السير إلى أماكن لم يوفق إلى بلوغها سابقاً ولم يحضَ سوى بالنظر إليها بعينيه، وهذا ما يمنحه ثقة في نفسه، كما يستطيع الإمساك بالأشياء وامتلاكها، وأن ينطق بالأسماء، ولاسيّما كلمة (لا)، وهذا الاستقلال الحديث للطفل ربما أضفى عليه حالة العدوانية والجرأة، فأوجد موقفاً مُحرجاً أمام الحنان الذي تمنحه إياه الأُم، ويزداد هذا الموقف إحراجاً مع استقلال الطفل الذاتي.

وفي هذه المرحلة ينبغي للأبوين اتخاذ موقف مختلف إزاء الرفض والنفي لدى طفلهما الذي يرفض، وعلى سبيل المثال: إرجاع شيء سبق أن أخذه، أو لا يرغب في الطعام إلا إذا حصل منهما على كلّ ما يريد، ومن الطبيعي أن يفضَّل التعامل معه بطريقة وسطى، لا تجعل منه طفلاً مدلَّلا ينال كلّ ما يرغب فيه، ولا تكبح كذلك محاولاته الاولى للاستقلال بصورة فظَّة.

وعلى الأُم أن تقبل استقلال طفلها الذاتي، وإنجازاته الأولى (واللاءات) التي يقذف بها في وجه كلّ شخص، ومن جهة ثانية فإن على الأبوين ألا يقمعا موقف التحدِّي هذا بشدة، وإن قبلاه من جانب طفلهما، إذ ليست هذه المرحلة سوى مرحلة عابرة يفترض أن تزول بعد أشهر معدودات.

ومهما يكن من أمر، فإن تلبية مواقف الرفض من جانب الطفل في أثناء هذه الفترة لا تعني تدليل الطفل، بل هي في الحقيقة جزء من نموِّه النفسي.

 

المصدر: كتاب فن تربية الطفل للكاتب السيد أحمد باقر القزويني

ارسال التعليق

Top